لم تعد حركة حماس بعد 7 أكتوبر 2023 كما كانت قبله، فالحرب المدمّرة على غزة واغتيال عدد من قادتها السياسيين والعسكريين لم يغيّرا فقط موقعها في المشهد الإقليمي، بل كشفا عمق الأزمة البنيوية داخل الحركة نفسها — أزمة تتعلق بالقرار، وبالمال، وبالهوية بين “المقاومة” و”السلطة”. ومع مرور الوقت، يتبيّن أن ما يجري داخل حماس ليس مجرد تباين في وجهات النظر، بل صراع داخلي على النفوذ والشرعية والمصادر المالية يهدد بتفكك الحركة من الداخل أكثر مما تفعله الضربات الإسرائيلية من الخارج.
حين استولت حماس على السلطة في غزة عام 2007، رفعت شعار المقاومة والحكم النظيف، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى سلطة أمر واقع تمارس أدوات القمع والسيطرة . فقد بنت الحركة جهازاً أمنياً داخلياً يوجّه جزءاً كبيراً من قوته نحو ضبط المجتمع وقمع المعارضين أكثر من مواجهة الاحتلال. ومع مرور السنوات، ظهرت طبقة مميزة داخل الحركة – أبناء القادة، ورجال المال المرتبطين بالمؤسسات التابعة لها – يعيشون في بحبوحة داخل الحصار، بينما يعاني سكان غزة الفقر والجوع. هذا الانقسام الطبقي بين أبناء النخبة الحمساوية وبقية الشعب الغزّي أصبح اليوم أحد جذور الغضب الشعبي الصامت ضد الحركة.
تفاقم التناقض بين قيادات الداخل وقيادات الخارج بصورة غير مسبوقة بعد الحرب الأخيرة. قيادة الخارج، بقيادة خالد مشعل وعزت الرشق، تتحرك من عواصم مريحة ومدعومة مالياً، وتخضع لتأثيرات قطرية وتركية واضحة في توجهاتها السياسية والإعلامية. أما قيادة الداخل في غزة، الذين يعملون الان بتوجيهات من خليل الحية المقيم في قطر والقيادات الميدانية المتبقية، فتعيش واقعاً قاسياً تحكمه النجاة اليومية وتحاول الحفاظ على ما تبقى من سلطة على الأرض. هذا التباين في البيئة والمصالح أنتج صراعاً مكتوماً على القرار: من يقرر الحرب أو الهدنة؟ من يدير المال القادم من الخارج؟ ومن يتحدث باسم الحركة في المرحلة القادمة؟ تسري داخل الأوساط الفلسطينية أحاديث عن محاولات متبادلة لعزل بعض الرموز وعن نزاع صامت على قيادة ما بعد العاروري، الذي كان يمثل توازناً بين الجناحين. ومع غياب شخصية جامعة، يبدو أن حماس اليوم أقرب إلى كتلتين متنافستين منه إلى تنظيم موحّد.
منذ سنوات، تدور حماس في فلك محور إقليمي يتنازع عليها. فإيران تموّل وتسلّح الجناح العسكري وتفرض عليه أجندة تتجاوز الحساب الوطني الفلسطيني، وتركيا وقطر تدعمان الجناح السياسي في الخارج وتوجهان خطابه الإعلامي وفق مصالحهما. هذا التعدد في مصادر الدعم جعل الحركة فاقدة للاستقلالية الفعلية، إذ باتت قراراتها مرهونة بتوازنات بين عواصم خارجية متناقضة. النتيجة أن حماس تحولت من حركة مقاومة إلى أداة في صراعات إقليمية تستعملها الأطراف المختلفة لتصفية حساباتها في الميدان الفلسطيني.
في الداخل، بدأت تتآكل شرعية حماس بين جمهورها. بعد 17 عاماً من الحكم، تحوّل شعار المقاومة إلى غطاء للهيمنة واحتكار الموارد. شكاوى المواطنين تتحدث عن فساد إداري ومالي واسع، وتفضيل أبناء الحركة في الوظائف والإعانات والمساعدات. الأجهزة الأمنية التابعة لحماس أصبحت أداة لترهيب الشعب وضبط الشارع أكثر مما هي أداة لحماية المقاومة. اليوم، ومع انكشاف حجم الدمار الذي أصاب غزة بعد الحرب، تتزايد الأسئلة داخل الشارع: لمن كانت تُبنى الأنفاق؟ ومن المستفيد من الأموال التي تدفقت على الحركة؟ وهي أسئلة تعجز حماس عن الإجابة عنها دون أن تُدين نفسها.
الاغتيالات التي طالت عدداً من القيادات البارزة خلقت فراغاً سياسياً وتنظيمياً، لكن الأخطر أنها أظهرت ضعف البنية الداخلية للحركة. فبدلاً من أن يتوحد الصف، بدأت تظهر محاور متنافسة على من يرث النفوذ السياسي والمالي. وتشير مصادر فلسطينية إلى أن بعض القيادات في الخارج تسعى لإعادة هيكلة الحركة بما يضمن استمرار نفوذها المالي، حتى لو كان ذلك على حساب وحدة التنظيم في غزة.
لم تعد معركة حماس اليوم مع إسرائيل بقدر ما هي مع نفسها. فالحركة التي طالما قدّمت نفسها كقوة مقاومة، تجد نفسها غارقة في صراعات المال والنفوذ والتبعية الخارجية، وفاقدة لثقة جزء واسع من شعبها. إن الانشقاق القائم اليوم ليس عارضاً، بل هو نتاج طبيعي لسنوات من الاستبداد والفساد والعزلة. قد تبقى حماس موجودة كاسم وشعار، لكنها فقدت جوهرها كحركة مقاومة مستقلة. وبذلك، فإن السؤال لم يعد: إلى أين تتجه حماس؟ بل أصبح: هل بقي في حماس






